لا تكتمل زيارة إسطنبول دون المرور بـ"البازار الكبير"، المعروف أيضًا باسم "كابالي تشارشيه"، وهو واحد من أقدم وأكبر الأسواق المغطاة في العالم. يعد هذا السوق القلب النابض لإسطنبول، حيث يعكس هويتها التاريخية والثقافية ويمنح زواره تجربة فريدة تأخذهم في رحلة عبر الزمن.
تاريخ عريق يمتد لقرون
تأسس "البازار الكبير" في القرن الخامس عشر على يد السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية عام 1453. بدأ كهيكل خشبي بسيط عام 1455، ثم تطور ليصبح السوق الرئيسي لعاصمة الدولة العثمانية. اكتمل بناؤه عام 1461، وازداد توسعًا حتى أصبح مركزًا تجاريًا حيويًا.
بسبب الظروف المناخية، قام التجار بتغطية الشوارع تدريجيًا، مما أدى إلى إنشاء سوق مغلق بالكامل مع سقف مزخرف بنوافذ للإضاءة الطبيعية. ومن هنا اكتسب السوق شهرته كسوق مغلق يقدم تجربة تسوق محمية من العوامل الجوية.
تصميم معماري ومساحات واسعة
يقع السوق في قلب إسطنبول القديمة بمنطقة الفاتح، ويمتد على مساحة تزيد عن 30 ألف متر مربع. يضم 18 بوابة رئيسية، أبرزها "باب جامع نور عثمانية" الذي يزينه شعار الدولة العثمانية. يحتوي السوق على أكثر من 60 شارعًا، تحمل كل منها أسماء الحرف والأنشطة التي تشتهر بها.
يتوسط السوق نوافير ومسجدان والعديد من المقاهي والمطاعم، إضافة إلى مركز للشرطة ومكاتب لخدمة الزوار. يضم أكثر من 6 آلاف متجر، يعمل بها نحو 26 ألف شخص، مما يجعله مدينة مصغرة تعج بالحياة.
سوق الذهب: مركز الاستثمار والثقافة
من أبرز أقسام "البازار الكبير" هو سوق الذهب، الذي يضم حوالي 400 متجر تقدم أرقى المشغولات الذهبية والمجوهرات التقليدية والحديثة. يعود تاريخ بعض هذه المتاجر إلى القرن الثامن عشر، مثل متجر "جومروك موشاورليجي" الذي تأسس عام 1748.
كان السوق مركزًا لبورصة الذهب في العهد العثماني، ويحتوي على أكبر خزنة تاريخية استخدمت لحفظ المجوهرات والنقود الثمينة. اليوم، يلعب سوق الذهب دورًا اقتصاديًا حيويًا، حيث يعكس الطلب المرتفع على الذهب تأثيره المباشر على سعر صرف الليرة التركية.
اقتصاد متشابك
يشتهر السوق بأنه المكان الذي يحدد السعر الحقيقي لصرف الليرة التركية مقابل العملات الأجنبية، حيث تقوم محلات الذهب أيضًا بأعمال الصرافة. يعرض العديد من المتاجر أسعار العملات بجانب الذهب، ما يؤكد الترابط الوثيق بين الذهب والعملات الأجنبية والليرة.
ميراث لا يندثر
على مر العصور، واجه "البازار الكبير" العديد من التحديات، بما في ذلك الزلازل والحرائق، أبرزها "الحريق الكبير" عام 1940. تأسست "جمعية البازار الكبير" عام 1950 للحفاظ على هذا الإرث المعماري والتاريخي. ساهمت الجمعية في تحديث السوق من خلال تحسين أنظمة الإضاءة والصرف الصحي وتعزيز إجراءات السلامة.
تجربة فريدة في كل زاوية
كلما تجولت في أروقة "البازار الكبير"، اكتشفت المزيد من أسراره المحملة برائحة التاريخ. إنه ليس مجرد سوق، بل شاهد حي على عبق الماضي وروح المدينة، ووجهة لا غنى عنها لعشاق التاريخ والثقافة والتسوق.
زيارة "البازار الكبير" ليست فقط تسوقًا، بل تجربة غنية تجمع بين أصالة الماضي وحيوية الحاضر، مما يجعله محطة لا تُنسى لكل من يزور إسطنبول.