بعد أكثر من 14 عامًا من الحرب المدمّرة، تدخل سوريا مرحلة سياسية واقتصادية جديدة، لكنّها تجد نفسها هذه المرة وسط صراع دولي من نوع آخر: صراع النفوذ بين الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وفي ظل غياب نظام بشار الأسد منذ ديسمبر 2024، وصعود حكومة جديدة بقيادة أحمد الشرع – الزعيم السابق لهيئة تحرير الشام – تحوّلت دمشق إلى ساحة مفتوحة لإعادة توزيع الأوراق الجيوسياسية.
أميركا تستثمر اللحظة
بالنسبة للولايات المتحدة، تبدو المرحلة فرصة تاريخية طال انتظارها. فالقيادة الجديدة في سوريا أبدت انفتاحًا واضحًا على الغرب، وابتعدت عن المحور الإيراني-الروسي الذي شكّل العمود الفقري لتحالفات الأسد لعقود.
خطوات عدة أكدت هذا التوجّه، منها زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية ولقائه مع الشرع، تلاها رفع تدريجي للعقوبات الأميركية والأوروبية عن دمشق.
بحسب محللين، فإن هذا الحراك ليس رمزيًا فقط، بل يمهّد لشراكة قائمة على المصالح: دمشق بحاجة ماسة لدعم اقتصادي، وواشنطن ترى في سوريا بوابة جديدة لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط.
لكن هذا التقارب لا يخلو من الحذر. فالقيادة السورية الجديدة تدرك أهمية التوازن، وتسعى إلى الحصول على دعم دون الوقوع في تبعية مطلقة، خصوصًا بعد عقود من الارتهان لمحور معين.
روسيا تحاول الحفاظ على موطئ قدم
بالرغم من أن خسارة الأسد شكلت ضربة موجعة للكرملين، إلا أن موسكو لا تزال تراهن على استمرار وجودها، ولو بشكل رمزي. فقاعدتها العسكرية في طرطوس تعد شريانًا مهمًا لنفوذها في شرق المتوسط.
تسعى روسيا اليوم، وفق مراقبين، إلى إعادة بناء قنوات دبلوماسية مع الحكومة الجديدة. لقاء جمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بنظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو، حمل رسائل متناقضة: من جهة محاولة روسية للبقاء على طاولة الشركاء، ومن جهة محاولة سورية للتوازن دون القطيعة التامة.
الصين تبحث عن فرص إعادة الإعمار
الصين، التي لم تكن طرفًا عسكريًا مباشرًا في الملف السوري، دعمت نظام الأسد سياسيًا واقتصاديًا خلال الحرب. واليوم، تسعى بكين للاستفادة من مرحلة ما بعد الحرب عبر توسيع نفوذها الاقتصادي، مستثمرة في ملف إعادة الإعمار.
سوريا تحتاج مئات المليارات من الدولارات لإعادة بناء بنيتها التحتية، وهو ما يجعل التمويل الصيني مغريًا. وفي هذا الإطار، شهدت دمشق زيارات متبادلة مع مسؤولين صينيين لبحث سبل التعاون، وسط ترحيب حذر من الجانب السوري.
ويبدو أن بكين تطمح إلى إدخال سوريا ضمن مشروع "الحزام والطريق"، ما يمنحها موقعًا استراتيجيًا على خارطة التجارة الدولية.
دمشق تمشي على حبل مشدود
وسط هذا التنافس المتصاعد، تحاول الحكومة السورية الجديدة أن تسير بخطى مدروسة، دون الانزلاق إلى محاور متصارعة أو خصومات حادة. هدفها الأساسي اليوم هو إعادة إعمار البلاد والحفاظ على الاستقرار الداخلي، دون التضحية بما تبقى من استقلال القرار السياسي.
السفير اللبناني السابق لدى كندا، مسعود معلوف، يرى أن القيادة السورية تسعى لـ"سيادة واقعية"، أي علاقات متوازنة مع جميع القوى دون الخضوع لإملاءات.
في الختام
المرحلة القادمة في سوريا لن تُحدّد فقط من الداخل، بل من حجم التوازنات الدولية التي تستطيع دمشق إدارتها. وبين رغبتها في النهوض من الرماد، وواقع التنافس العالمي الذي يطوّقها من كل جانب، يبدو أن سوريا تخطو نحو إعادة تموضع معقّدة، تتطلب براعة سياسية غير مسبوقة للبقاء خارج فخاخ التبعية الجديدة.