في صحراء تمتد على أطراف مدينة الضمير بريف دمشق، تقف الجغرافيا شاهداً صامتاً على واحدة من أكثر القصص غموضاً وإثارة للجدل. هناك، بين طبقات التربة وألوانها المتبدلة، ساعدت الطائرات المسيّرة وتقنيات التحليل الجيولوجي الجنائي في الكشف عن مقبرة جماعية يُعتقد أنها تضم جثثاً نُقلت من موقع آخر لإخفاء أدلة جرائم ارتُكبت خلال سنوات الحرب السورية.
بدأت القصة حين أظهرت صور جوية التُقطت بطائرات من دون طيار علامات غير مألوفة في أرض قاحلة قرب الضمير. الأشكال الهندسية المنتظمة للخنادق، وتغير لون التربة في بقع محددة، دفعت مجموعة من الخبراء الجيولوجيين إلى دراسة الموقع باستخدام أحدث تقنيات المقارنة بين التربة والصور الجوية. وكانت النتيجة مفاجئة: مؤشرات قوية على نقل تربة وجثث من موقع مقبرة جماعية في القطيفة إلى موقع جديد في الضمير بين عامي 2019 و2021.
رحلة البحث بين السماء والأرض
التحقيق اعتمد على آلاف الصور الجوية التي التُقطت بواسطة طائرات درون على ارتفاعات منخفضة، صُمّمت بعناية وفق نمط طيران شبكي يتيح تغطية كاملة للموقعين. بعد أكثر من ساعة من التحليق، جُمعت آلاف الصور التي جرى دمجها عبر برامج متقدمة لتشكيل صورة مركبة عالية الدقة، مكّنت الخبراء من رصد تفاصيل لم تكن ممكنة من قبل عبر الصور الفضائية التقليدية.
في موقع القطيفة، حيث كانت المقبرة الأصلية، رُصدت حفر فارغة وأرض مضطربة، بينما أظهرت صور الضمير الحديثة خنادق جديدة وتربة بلون داكن يشير إلى خلطها بتربة مختلفة المصدر. هذا التباين دفع الجيولوجيين إلى استخدام نظام ألوان مونسيل، وهو معيار علمي لتصنيف الألوان في تحليل التربة، لتأكيد تطابق التربة المنقولة بين الموقعين.
أدلة من نوع جديد
أكّد الفريق العلمي أن التغير في لون التربة وتركيبها لا يمكن أن يكون مصادفة. فالتربة في القطيفة غنية بالأكاسيد الحديدية ذات اللون الأحمر، بينما يغلب على تربة الضمير الطابع الرملي الرمادي. ومع ذلك، أظهرت صور الطائرات المقرّبة أن بعض الخنادق في الضمير تحتوي على تربة داكنة تميل إلى الحمرة، وهو ما يعزز فرضية نقل التربة – وربما الرفات – من موقع إلى آخر.
ولم تقتصر الأدلة على الألوان، إذ كشفت الصور المركبة آثار جرافات وأدوات حفر ميكانيكية حديثة، مع خطوط واضحة تدل على عمليات تسوية وإعادة ردم، مما يشير إلى نشاط بشري مكثف جرى على مدار أشهر.
خبراء علوم التربة الجنائية يرون في هذه المؤشرات "بصمة مادية" لا تقل أهمية عن الأدلة الجنائية التقليدية، إذ يمكن للعينات المأخوذة من الطبقات السفلى أن تكشف عن تاريخ الاضطرابات في الأرض ومصدرها، وصولاً إلى تحديد نوع المعادن والمواد العضوية الناتجة عن تحلل الجثث.
التحقيق العلمي بدل الشهادة وحدها
التحقيق استند أيضاً إلى شهادات أكثر من عشرة أشخاص قالوا إنهم شاركوا في عمليات نقل الجثث، بينهم سائقي شاحنات وحفارون وجنود سابقون. رواياتهم تقاطعت مع نتائج التحليل العلمي، لتقدّم صورة شبه مكتملة عن عملية وُصفت بأنها محاولة لإخفاء آثار المقابر الأصلية في القطيفة تحت ستار ما سُمّي بـ"عملية نقل الأرض".
ومع ضعف إمكانات الاتصال والإنترنت في سوريا، استغرق رفع الصور والبيانات إلى المختبرات الخارجية عدة أيام، لكن النتيجة النهائية كانت كافية لتقديم دليل بصري وجيولوجي متكامل يدعم أقوال الشهود ويحوّل الشبهات إلى حقائق علمية.
أرض تتكلم بعد الصمت
يرى المتخصصون أن استخدام الطائرات المسيّرة وتحليل التربة في التحقيقات الجنائية يمثل نقلة نوعية في توثيق المقابر الجماعية، إذ يسمح بتحديد مواقع الدفن ومتابعة التغييرات على سطح الأرض دون المساس بالموقع نفسه، ما يجعله قابلاً للاستخدام لاحقاً في تحقيقات قانونية دولية.
الضمير اليوم لم تعد مجرد بلدة في الصحراء السورية، بل باتت نقطة على خريطة الأدلة الجنائية العالمية، حيث تكشف الأرض، ولو بعد سنوات، ما حاول البعض دفنه إلى الأبد.