في المشهد السوري الراهن، يفرض سؤال جوهري نفسه بإلحاح: ما حدود الممكن في السياسة السورية؟ وهل لا يزال هناك مجال لتحقيق اختراق حقيقي في ظلّ انسداد الأفق السياسي والاجتماعي وتضارب المصالح الداخلية والخارجية؟
بين ما يُراد وما يُمكن، تتأرجح سوريا في معادلة معقدة تُدار داخلها حسابات القوة، والمصالح، والأوهام.
بين الواقع والرغبة... السياسة في مأزق التوازن
من الصعب الحديث عن أي “ممكن سياسي” في سوريا دون النظر إلى بيئته الحقيقية.
فالبلاد لم تعد ساحة تنازع داخلية فحسب، بل تحولت إلى حقل اختبار إقليمي ودولي تتقاطع فيه إرادات الفاعلين المحليين مع أجندات خارجية متباينة.
وإذا كانت بعض الأطراف السورية — في السلطة والمعارضة على حد سواء — تُبدي رغبة في تجاوز الانقسام، فإنها تصطدم بواقع أمني هشّ ونفوذ أجنبي واسع يعيد رسم خريطة النفوذ وفق مصالح تتجاوز الحدود السورية نفسها.
النتيجة أن الممكن لا يرتبط بالنوايا، بل بميزان القوى القائم. فما يُراد تحقيقه سياسياً يصطدم بمصالح كبرى تفرض حدودها على أي مشروع وطني جامع.
أوهام الحلول السريعة
أولى أوهام الأزمة السورية هي الاعتقاد بأن الحل يمكن أن يأتي من الخارج، عبر تفاهمات بين القوى الكبرى أو اتفاقات إقليمية، دون مصالحة داخلية حقيقية.
هذا المنطق، الذي ساد في مراحل مختلفة من الصراع، أثبت أنه ينتج هدنات مؤقتة لا حلولاً جذرية. فالحل الخارجي غالباً ما يُبقي جذور الأزمة كما هي، بل ويعمّق الانقسامات المجتمعية.
أما الوهم الثاني، فهو الرهان على الحسم العسكري كطريق لاستعادة الوحدة.
فعلى الرغم من نجاح السلطة في استعادة مناطق واسعة، إلا أن الاعتماد على القوة وحدها يولّد استقطاباً جديداً ويعمّق الانقسام بين مكونات المجتمع، ما يجعل الاستقرار السياسي هشّاً وغير قابل للاستدامة.
والوهم الثالث، ربما الأكثر خطورة، يتمثل في الدعوة إلى مصالحة عاجلة دون عدالة. إذ لا يمكن بناء توافق سياسي متين ما لم تُعالج الأسباب الجذرية للنزاع، من مظالم اجتماعية وغياب مساءلة حقيقية عن الانتهاكات. فالمصالحة الشكلية قد تؤجل الصراع، لكنها لا تُنهيه.
الممكن السياسي: خطوات صغيرة نحو التغيير
في المقابل، يرى باحثون أن “الممكن السوري” لا يعني العودة إلى الماضي ولا بناء مشروع شامل دفعة واحدة، بل البدء بمسارات تدريجية تركز على ملفات محددة: إعادة توزيع الموارد، إصلاح الإدارة المحلية، وخلق مساحات تفاهم بين القوى الفاعلة على الأرض.
فالتسويات الجزئية قد تشكّل قاعدة لسلامٍ أكثر واقعية من الحلول الشاملة المؤجلة.
كما يتطلب هذا المسار انفتاحاً سياسياً جديداً يعترف بالتعددية الاجتماعية والسياسية، ويشرك الفئات المهمشة — وخاصة الشباب والنساء — في بناء مستقبل البلاد. فالمجتمع الذي أُنهك لعقدٍ ونصف يحتاج إلى طاقة مدنية حقيقية تعيد الثقة بين المواطن والدولة.
قيود ما بعد الحرب: من المركزية إلى التعددية
من بين أبرز القيود التي تكبّل أي محاولة إصلاح هي الرغبة في العودة إلى نموذج الدولة المركزية القديمة.
هذا الطموح، رغم وجاهته في نظر بعض القوى، لا يعكس التحولات العميقة في بنية المجتمع السوري ولا يُراعي مطالب المناطق المختلفة بالحكم المحلي والتمثيل العادل.
إن إصرار أي طرف على استعادة السيطرة الكاملة دون ضمانات مشاركة سياسية واقتصادية حقيقية، يعني إعادة إنتاج الأزمة بأسلوب جديد.
في المقابل، تُعتبر التعددية واللامركزية السياسية فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة، لا على القسر والتغليب.
التحدي الأكبر: من الوهم إلى الواقعية
تعيش سوريا اليوم بين أوهامٍ موروثة وممكناتٍ واقعية محدودة، تتقاطع فيها الأزمات الاقتصادية مع الانقسامات السياسية.
فالخروج من هذه الدائرة لا يتطلب شعارات كبرى بقدر ما يحتاج إلى واقعية سياسية ناضجة تعترف بعمق التصدعات المجتمعية، وتبني مشروع الدولة خطوة بخطوة.
عندها فقط يمكن تجاوز قيود المستحيل، وتحويل الممكن من فكرة إلى فعل سياسي متوازن يفتح الطريق نحو سلامٍ طويل الأمد.