في صباحٍ ضبابي من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، خرج الطفل محمد قيس حيدر إلى مدرسته في مدينة اللاذقية، ولم يعد. دقائق كانت كافية ليتحول يومٌ عادي إلى مأساة، بعدما أوقفته سيارة تقلّ ملثمين واقتادوه بعيدًا عن الأنظار.
لم تكن الحادثة الأولى في الساحل السوري، لكنها كانت الشرارة التي أعادت ظاهرة الاختطاف إلى واجهة النقاش العام، لتفتح باباً واسعاً على مأساةٍ مزدوجة: مأساة الضحايا، ومأساة تشويه الحقائق.
أرقام مفزعة وصمت ثقيل
خلال الأشهر الأخيرة، تزايدت حالات الخطف في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص، مستهدفةً مدنيين من خلفيات مختلفة، بينهم نساء وأطفال. ورغم أن أغلب هذه الجرائم تُسجَّل ضد “مجهولين”، إلا أن بعض التقارير الحقوقية تشير إلى أنماط متكررة ترتبط بدوافع انتقامية أو مالية.
مصادر محلية في الساحل تؤكد أن الفديات المطلوبة في بعض الحالات وصلت إلى 15 ألف دولار، في حين تم العثور على جثث مختطفين بعد أيام من احتجازهم، ما يزيد الشكوك حول ارتباط هذه الجرائم بشبكات منظمة تضم عناصر مسلحة سابقة، مستفيدة من الفراغ الأمني بعد انهيار أجهزة النظام السابق.
لكن ما يُثير القلق أكثر هو غياب التحقيقات الفعّالة، إذ لم تُعلن السلطات المحلية عن نتائج ملموسة في أي من القضايا الكبرى، ما جعل أهالي الضحايا يعيشون بين أملٍ مهدور ويأسٍ يتعمّق كل يوم.
من الاختطاف الواقعي إلى الاختطاف الإعلامي
بينما كانت عائلات الضحايا تبحث عن أبنائها، كانت ساحة الإنترنت تموج برواياتٍ متضاربة.
صفحات موالية للنظام السابق وأخرى معارضة دخلت على الخط، لتُحوّل مأساة إنسانية إلى مادة دعائية.
بعض الحسابات نشرت صورًا لأطفال مجهولين وقدّمتهم على أنهم مختطفون في اللاذقية أو طرطوس، في حين تبيّن لاحقًا أن الصور تعود لحوادث مختلفة أو لدول أخرى.
هذا الخلط المتعمد جعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والدعاية، وحوّل الخطف من جريمة جنائية إلى أداة سياسية.
يرى ناشطون محليون أن هذا التشويه المقصود “يخطف الحقيقة من أهلها”، ويحوّل الألم الإنساني إلى سلاحٍ في معركة الروايات.
فبينما تُطالب عائلات الضحايا بتحقيقٍ نزيه يكشف مصير أبنائهم، تُستغل القضية لتغذية الانقسامات الطائفية والسياسية، عبر قصص مختلقة ومقاطع مصوّرة تُعيد إنتاج الخوف في مجتمعٍ لم يلتقط أنفاسه بعد.
المال والسياسة... وجهان لظاهرة واحدة
رغم اختلاف الدوافع المعلنة، إلا أن المراقبين يرون أن الاختطاف في الساحل السوري لم يعد ظاهرة عشوائية، بل نتاجاً لتقاطع عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية.
فالانهيار الاقتصادي الحاد، وغياب مؤسسات الضبط، وتراجع سلطة الدولة، كلها ساهمت في تحويل الجريمة إلى وسيلة للعيش أو الانتقام أو حتى الرسائل السياسية.
وفي ظلّ غياب الثقة بين المجتمع والسلطات المحلية، تبدو هذه الجرائم انعكاساً لتفكك البنية الأمنية والاجتماعية.
فما كان يُدار سابقاً من خلال القبضة الأمنية الصارمة، بات اليوم يُترك للعائلات والعشائر تتعامل معه بوسائلها الخاصة — تفاوض، فدية، أو انتقام متبادل.
الخطف كمرآة للمجتمع بعد الحرب
يرى باحثون أن قضية الخطف في الساحل ليست مجرد مؤشر جنائي، بل مرآة لما آل إليه المجتمع السوري بعد الصراع الطويل.
فهي تكشف هشاشة الأمن، وغياب العدالة، وتآكل الثقة بالمؤسسات.
لكنها في الوقت نفسه، تفضح كيف يُدار الرأي العام عبر حملات تضليلٍ ممنهجة تسعى إلى صياغة صورة جديدة لما يحدث، وفق مصالح الفاعلين السياسيين والإعلاميين.
الاختطاف، في معناه الأوسع، لم يعد يطال الأفراد فقط، بل طال الحقيقة نفسها.
حقيقةٌ تختطفها الروايات المتضاربة، وتضيع بين بيانات متناقضة، ومقاطع فيديو مجهولة المصدر، وصمت رسمي يزيد الغموض غموضاً.
بين الخوف والحقيقة
في النهاية، لا يمكن فصل ظاهرة الخطف في الساحل عن السياق السوري الأوسع.
فما جرى في اللاذقية ليس حادثة معزولة، بل جزء من سردية وطنية مأزومة، حيث تتحول المأساة الإنسانية إلى مادة سياسية.
وبين روايات الخطف وروايات الإنكار، يبقى الضحايا الحقيقيون — كطفل اللاذقية — مختطفين مرتين: مرة من قبل خاطفيهم، ومرة أخرى من قبل سردياتٍ تُشوّه وجعهم وتحوّله إلى أداة.