انفجار اجتماعي مؤجل في الشمال الشرقي السوري

2025.10.27 - 10:18
Facebook Share
طباعة

 
منذ مطلع عام 2025، تشهد مناطق شمال وشرق سوريا الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” تصاعدًا لافتًا في معدلات الجرائم والاقتتالات العشائرية، وسط حالة من التوتر الاجتماعي وتراجع الثقة بالأجهزة الأمنية والقضائية المحلية. هذا الارتفاع اللافت في أعمال العنف بات يعكس هشاشة المنظومة الأمنية وتداخل المصالح العشائرية والسياسية في آنٍ واحد، ما ينذر بتحديات خطيرة على المستوى المجتمعي والأمني في المنطقة.


جرائم متصاعدة وأرقام مقلقة
بحسب تقارير حقوقية محلية، سجّلت مناطق الإدارة الذاتية 131 جريمة قتل متعمدة منذ بداية العام الجاري، أودت بحياة 151 شخصًا بينهم 122 رجلًا و19 امرأة و10 أطفال، في حين ما تزال العديد من الجرائم الأخرى قيد التحقيق دون أن تُكشف ملابساتها أو يُعلن عن المتورطين فيها.

وتنوّعت دوافع هذه الجرائم بين الخلافات العائلية، والثأر، والسرقة، والنزاعات العقارية، فضلًا عن جرائم غامضة يُعتقد أن بعضها مرتبط بتصفية حسابات بين مجموعات محلية أو شخصيات متنفذة.

في موازاة ذلك، شهدت المنطقة 59 اقتتالًا عشائريًا منذ مطلع العام، تسببت بمقتل 48 شخصًا وإصابة 76 آخرين بجروح متفاوتة. وغالبًا ما تندلع هذه الاشتباكات نتيجة نزاعات على الأرض أو قضايا ثأر قديمة، وتتحول بسرعة إلى معارك مفتوحة بسبب وفرة السلاح وغياب الضبط الأمني.


سلاح بلا ضوابط
ظاهرة انتشار السلاح في أيدي المدنيين لم تعد استثناءً في مناطق الإدارة الذاتية، بل تحوّلت إلى سمة يومية. في القرى والأرياف، يحمل السلاح كأداة حماية، بينما في المدن يُستخدم في النزاعات أو حتى كرمز للنفوذ العشائري.
ويرى مراقبون أن غياب سياسة واضحة لضبط السلاح أو حصره بيد القوى الأمنية، إضافة إلى تراجع سلطة القانون أمام سلطة الأعراف العشائرية، جعل من الفوضى الأمنية واقعًا يوميًا يعيشه السكان.

يقول أحد الوجهاء من ريف دير الزور إن “الثأر بات أسرع من القانون، والسلاح أسرع من المحكمة”، مشيرًا إلى أن غياب الردع القانوني ساهم في تفاقم الجرائم التي أصبحت تُحل أحيانًا خارج إطار الدولة.


تحديات أمام الإدارة الذاتية
تواجه “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا معضلة مركبة: فهي من جهة تسعى إلى تقديم نموذج حكم محلي بديل يعزز الاستقرار، لكنها في الوقت ذاته تواجه تآكلًا تدريجيًا في قدرتها على فرض الأمن، بسبب تعدد القوى المسلحة وتداخل الانتماءات العشائرية والسياسية.

ورغم الحملات الأمنية التي تشنها قوى الأمن الداخلي (الأسايش) بين الحين والآخر، إلا أن أثرها يبقى محدودًا، إذ غالبًا ما تنتهي الاعتقالات بتسويات عشائرية، أو تضيع الملفات في تعقيدات القضاء المحلي.

مصادر من داخل الأجهزة الأمنية المحلية تؤكد أن “العمل الأمني يواجه تحديات كبيرة، خاصة في المناطق الريفية الممتدة على طول نهر الفرات، حيث تنتشر الأسلحة الفردية والعشائر المتنازعة، إلى جانب خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي ما تزال تستغل هذا التشتت للقيام بعملياتها بين حين وآخر”.


وجهات نظر متباينة
في المقابل، تُرجع شخصيات قريبة من الإدارة الذاتية جزءًا من تصاعد العنف إلى حملات تحريض إعلامية وتمويل خارجي يستهدف زعزعة الاستقرار في المنطقة. ويقول أحد مسؤولي المجالس المحلية في الحسكة إن “هناك جهات تعمل على تغذية الصراعات العشائرية وإثارة الفتن بهدف تقويض التجربة المدنية للإدارة”.

في حين يرى ناشطون حقوقيون أن المشكلة داخلية بالدرجة الأولى، وأن الخلل المؤسسي في منظومة العدالة المحلية هو ما يسمح بتكرار الجرائم دون محاسبة فعالة، مشيرين إلى أن “الإفلات من العقاب” أصبح أحد أبرز مظاهر الأزمة الأمنية.


مجتمع على حافة الانفجار
القراءة التحليلية لهذه الأرقام تكشف عن تصدع اجتماعي عميق في البنية القبلية والمجتمعية لشمال وشرق سوريا، حيث يتقاطع العامل الاقتصادي مع الانقسام السياسي ليولد حالة من الاحتقان المستمر.
فالمناطق الخاضعة للإدارة الذاتية تعاني من بطالة مرتفعة، وتراجع الخدمات العامة، ونقص الاستثمارات، ما يخلق بيئة خصبة للعنف. كما أن غياب المرجعية القضائية الموحدة يتيح لكل عشيرة أو قوة محلية فرض منطقها الخاص في إدارة الخلافات.

يُضاف إلى ذلك أن العديد من سكان تلك المناطق عاشوا لسنوات طويلة تحت تأثير الحرب والانقسام، ما جعل حمل السلاح عادة اجتماعية أكثر منه ضرورة أمنية، في ظل ضعف ثقافة القانون وانتشار الولاءات الفصائلية والعشائرية.

ويرى باحثون في الشؤون السورية أن “الفوضى الأمنية في مناطق الإدارة الذاتية لا يمكن فصلها عن المشهد العام في البلاد”، مؤكدين أن “الاستقرار هناك مرهون بمدى قدرة القيادة المحلية على إصلاح منظومتها الأمنية وإطلاق مسار مصالحة اجتماعية حقيقية، تتعامل مع جذور العنف لا أعراضه فقط”.


ما بين التحدي والإصلاح
تبقى المعادلة صعبة: فالإدارة الذاتية مطالبة بإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساتها، ووضع حد لظاهرة السلاح المنفلت، دون خسارة توازنها الداخلي بين المكونات القومية والعشائرية.
لكن في ظل استمرار النزاعات الداخلية وغياب الدعم الدولي الكافي، يبدو أن الطريق نحو ضبط الأمن لا يزال طويلاً، وربما محفوفًا بمزيد من الفوضى قبل الوصول إلى أي استقرار دائم.

وفي المحصلة، فإن الأرقام المتصاعدة لجرائم القتل والاقتتال العشائري ليست مجرد إحصاءات عابرة، بل جرس إنذار اجتماعي وأمني يذكّر بأن العنف حين يصبح اعتيادًا، فإن المجتمع كله يكون على حافة الانهيار.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 1