في عمق الصحراء الشرقية لمحافظة الحسكة، يظلّ مخيّم الهول أشبه ببرميل بارود مهدّد بالانفجار في أي لحظة.
هنا، حيث تختلط نساء تنظيم “داعش” وأطفالهم بعناصر الأمن والمساعدين الإنسانيين، لا يبدو المشهد كحالة إنسانية تقليدية، بل كبيئة مكتظة بالعداء والتوتر، تحمل في داخلها ملامح تنظيمٍ لم يمت بعد.
فمنذ إنشائه عام 2016، تحوّل المخيم من مأوى للنازحين إلى مستودعٍ بشري للفكر المتشدّد، يحتجز بين أسواره أكثر من 45 ألف شخص، معظمهم من عائلات مقاتلي التنظيم، ينتمون إلى أكثر من 50 جنسية مختلفة.
ورغم الجهود المحلية والدولية لإعادة تأهيلهم أو إعادتهم إلى بلدانهم، فإنّ الهول لا يزال مصنعاً مفتوحاً لإعادة إنتاج التطرف.
محاولات هروب متكررة وتخطيط منظم
الواقع داخل المخيم يكشف عن شبكات سرّية نشطة تعمل على تهريب النساء والأطفال من قسم “المهاجرات”، وهو القسم الأخطر في المخيم، حيث تقيم النساء الأجنبيات اللواتي بايعن التنظيم وواصلن تبنّي فكره حتى اليوم.
خلال الأشهر الماضية، تمكنت قوات الأمن الداخلي من إحباط محاولات فرار جماعية شملت أكثر من 60 شخصاً بين نساء وأطفال، بعضهم من جنسيات أجنبية. وتبيّن أن تلك المحاولات جرى تمويلها وتنسيقها من خلايا مرتبطة بتنظيم “داعش” داخل سوريا وخارجها، في مساعٍ مستمرة لإعادة إحياء نشاط التنظيم من الداخل.
وفي مشاهد متكررة، تتحوّل عمليات التفتيش أو التغطية الإعلامية داخل المخيم إلى مواجهات علنية بين عناصر الأمن وسيدات من “المهاجرات”، حيث يُهاجم الصحافيون بالحجارة وتُكال إليهم الشتائم الدينية، ويُوصَفون بـ"الكفار"، في دلالة على أن العقلية المتشددة ما زالت حية ومتجذّرة رغم سنوات من العزل والمراقبة.
أطفال على خط التطرف
في زوايا المخيم، يمكن ملاحظة أطفال صغار ينشدون أناشيد تمجّد “الخلافة” و“الجهاد”، ويعيدون كلمات آبائهم الذين فقدوهم في المعارك.
هذا الجيل الجديد، الذي ولد بين الأسلاك والحراسة، لم يعرف سوى رايات سوداء وأحاديث عن الثأر والولاء، ما يجعله مشروع خطر مستقبلي إذا لم تتم معالجة وضعه بشكل عاجل.
برامج الدعم النفسي والتعليم البديل التي أطلقتها منظمات محلية ودولية ما زالت محدودة التأثير، إذ تواجه مقاومة فكرية شديدة من الأمهات اللواتي يرفضن أي محاولة لتغيير ثقافة أطفالهن.
ويقول أحد العاملين الإنسانيين داخل المخيم إن “كل خطوة توعوية هناك تُقابل بالتهديد أو المقاطعة. النساء يعتبرن أنفسهن في معركة عقائدية، لا في مركز تأهيل.”
انفلات متكرر وتحدٍّ أمني متصاعد
خلال الأسابيع الأخيرة، شهد المخيم حالة فوضى عنيفة عندما أقدمت مجموعة من النساء والأطفال على رشق قوات “الأسايش” بالحجارة أثناء تنفيذ عملية تفتيش.
اضطرت القوات إلى استخدام القوة للسيطرة على الوضع، فيما أصيب عدد من العاملين بجروح طفيفة.
تلك الحوادث ليست الأولى، إذ تتكرر بنمط شبه يومي، ما يجعل السيطرة الأمنية على المخيم عبئاً دائماً وتهديداً مستمراً.
وتؤكد تقارير ميدانية أن خلايا التنظيم داخل المخيم تواصل التخطيط لاستهداف العناصر الأمنية والصحفيين، كما تعمل على نشر رسائل تحريضية عبر الهواتف المهربة بين القاطنين.
وفي الوقت الذي تبدو فيه المنطقة هادئة ظاهرياً، فإنها تخفي خلف جدرانها توترات دينية وعقائدية تنذر بانفجارٍ محتمل.
رحلات عودة محدودة وجهود شاقة
رغم التحديات الأمنية، تمكّنت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، بالتعاون مع التحالف الدولي، من تنفيذ عمليات إعادة وترحيل محدودة لبعض العائلات إلى مناطقها أو إلى دولها الأصلية.
فمنذ مطلع العام الحالي، غادرت المخيم 2748 عائلة، تضم أكثر من 7270 شخصاً من الجنسيات السورية والعراقية، غالبيتهم من دير الزور وحمص وحلب.
كما سلّمت الإدارة عدداً من النساء والأطفال الأجانب إلى دولهم، بينهم 71 شخصاً من أوروبا (من النمسا وبريطانيا وألمانيا)، إضافة إلى حالات من جنوب أفريقيا والبرازيل وتنزانيا وفرنسا.
لكنّ هذه العمليات ما تزال بطيئة جداً، في ظلّ تردد كثير من الحكومات في استقبال رعاياها خشية المخاطر الأمنية والتداعيات السياسية.
بين الجمود والخطر
رغم الجهود الدولية المستمرة، يبقى ملف مخيم الهول الأعقد والأكثر حساسية في المشهد السوري.
فالمخيم الذي أنشئ كحلٍّ مؤقت تحول إلى رمز للفشل الدولي في معالجة إرث داعش، بين تقاعس الدول عن استعادة مواطنيها، وتضاؤل إمكانيات الإدارة المحلية في ضبط هذا الكمّ الهائل من القاطنين.
ويحذّر مراقبون من أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى تشكّل جيل جديد من المتطرفين، أشد صلابة وأكثر عزلة، خصوصاً أن البيئة المغلقة تكرّس الانقسام بين “الداخل” و“الخارج”، وتجعل من المخيم عالماً موازياً لعقيدة لا تزال حيّة.
وبين السطور، يبرز سؤال واحد يردده كثيرون:
هل ينتظر العالم الانفجار القادم من الهول قبل أن يتحرك؟