في ظل استمرار الغارات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني، وصل التحرك الدبلوماسي الفرنسي إلى مرحلة جديدة مع زيارة آن كلير لوجاندر، مستشارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لشؤون الشرق الأوسط، إلى بيروت، في محاولة لإعادة الزخم للمبادرة الفرنسية الرامية إلى تثبيت وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، واحتواء التوتر المتصاعد منذ أشهر.
لقاءات حاسمة مع الرؤساء اللبنانيين
بحسب مصدر دبلوماسي تحدث لقناة العربية/الحدث، فإن لوجاندر ستجتمع يوم الخميس بالرؤساء الثلاثة — رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة — لبحث سبل التهدئة في الجنوب، ومطالبة إسرائيل بوقف اعتداءاتها المتكررة على الأراضي اللبنانية، التي تصاعدت في الأسابيع الأخيرة بشكل لافت.
وتركز الزيارة، وفق المصدر، على إعادة تفعيل الاتفاق الذي أُبرم برعاية فرنسية ودولية في نوفمبر 2024، والذي نصّ على انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب، وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية تحت إشراف الجيش.
فرنسا تعيد إحياء "الميكانيزم" الدولي
تشارك باريس ضمن لجنة "الميكانيزم" — وهي آلية مراقبة دولية أُنشئت لمتابعة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل بعد حرب 2024 — حيث تعمل مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية على رصد الانتهاكات والخروقات اليومية، التي تهدد بانهيار التفاهم الهش بين الجانبين.
وتأتي زيارة لوجاندر بعد تحذيرات فرنسية متكررة من أن استمرار المواجهات الحدودية يضع لبنان على حافة مواجهة جديدة، خصوصاً مع إصرار إسرائيل على إبقاء وجود عسكري محدود في خمس نقاط حدودية جنوب البلاد، بحجة "ملاحقة عناصر حزب الله"، في انتهاك صريح لبنود اتفاق التهدئة.
ملف حصر السلاح والإصلاحات الاقتصادية
الملف الثاني على جدول زيارة لوجاندر يتمثل في الضغط لتنفيذ قرار الحكومة اللبنانية الصادر في أغسطس الماضي، والقاضي بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وتكليف الجيش بمهمة جمع الأسلحة غير الشرعية، ورفع تقارير دورية حول التقدم في هذه العملية.
تؤكد باريس أن ضبط السلاح شرط أساسي لعودة الدعم الدولي للبنان، خصوصاً في ظل الجمود السياسي والانهيار المالي المستمر منذ سنوات. وقد ربطت فرنسا – ومعها الاتحاد الأوروبي – أي مساعدات أو استثمارات جديدة بمدى التزام بيروت بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك إصلاح قطاع الكهرباء والمصارف، ومكافحة الفساد الإداري والمالي.
موقف حزب الله: السلاح خط أحمر
من جهته، لا يزال حزب الله يعارض بشكل قاطع تسليم سلاحه، معتبراً أن استمرار الاعتداءات الإسرائيلية يجعل أي نقاش في هذا الملف "غير واقعي" و"خارج السياق الوطني".
ويرى الحزب أن سلاح المقاومة يمثل عنصر ردع ضروري في ظل فشل المجتمع الدولي في حماية السيادة اللبنانية أو إلزام إسرائيل بوقف خروقاتها الجوية والبرية.
ومع أن الحزب خرج من حرب 2024 بخسائر ميدانية واضحة، وتراجع في نفوذه السياسي داخل البرلمان، إلا أنه ما زال يمتلك نفوذاً عسكرياً وتنظيمياً يمنحه موقعًا متقدّمًا في المعادلة اللبنانية، ما يجعل أي محاولة لنزع سلاحه دون ضمانات أمنية وسياسية مسألة شبه مستحيلة.
فرنسا.. عودة إلى الدور التقليدي
تحاول باريس من خلال هذا التحرك استعادة موقعها التاريخي في الساحة اللبنانية، بوصفها "الضامن الدولي" لتوازن القوى بين الأطراف اللبنانية، والممثل الأوروبي الأكثر تأثيرًا في ملفات الشرق الأوسط الحساسة.
ويرى مراقبون أن زيارة لوجاندر تأتي في إطار مقاربة فرنسية جديدة تقوم على الدمج بين الضغط السياسي والتحفيز الاقتصادي، إذ تراهن باريس على أن إنقاذ الاقتصاد اللبناني قد يشكل مدخلًا لإعادة هيكلة الوضع الأمني في الجنوب واحتواء نفوذ حزب الله تدريجيًا.
مسار معقد ينتظر بيروت
تأتي الزيارة الفرنسية في لحظة مفصلية: الجنوب يغلي تحت الغارات الإسرائيلية، والاقتصاد يترنح، والمشهد السياسي غارق في الانقسامات. وبين ضغوط الخارج وتشابك الداخل، تبدو مهمة باريس أقرب إلى محاولة ترميم اتفاق هشّ في بلدٍ لم يتعافَ بعد من أزمات متلاحقة.
ويبقى السؤال الأهم: هل تمتلك فرنسا ما يكفي من النفوذ لإقناع تل أبيب بالانسحاب الكامل من الجنوب، وإقناع حزب الله بتسليم سلاحه في المقابل؟ أم أن التهدئة الحالية ليست سوى هدوء مؤقت قبل عاصفة جديدة؟