بعد أكثر من أربعة عشر عاماً على النزوح والتهجير، عاد أكثر من مليون ومئتي ألف لاجئ سوري إلى مدنهم وقراهم عقب تحرير البلاد في كانون الأول/ديسمبر 2024، وفق بيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. هؤلاء العائدون قدموا من دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن ومصر حاملين آمالاً ببداية حياة جديدة، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام واقع اجتماعي ومجتمعي تغيرت فيه القيم والأولويات، مما جعل إعادة الاندماج تحدياً معقداً.
رغم الفرحة بالعودة، يواجه كثير من العائدين نظرات متباينة من المجتمع المحلي، إذ يعتبر بعض المقيمين أن العائدين لم يعايشوا التحديات نفسها، فيما يشعر العائدون بأن غربة الخارج كانت تجربة صعبة مليئة بالتحديات، تزيد من شعورهم بالانتماء لوطنهم. الشابة نجاح، التي عادت من تركيا بعد سنوات من اللجوء، تقول إن عودتها كانت حلمها منذ زمن، لكنها فوجئت بـ"نظرة عدم تقبل" من بعض الناس، معتبرين عودتها تضحية تستحق التقدير، ما يخلق فجوة في التواصل والتفاهم بين الطرفين.
يشير العائدون إلى فروق واضحة بين من عاش الغربة ومن بقي في الداخل، من حيث أسلوب الحياة وطريقة التفكير والانتماء، حيث تحمل خبرات الخارج تأثيراً ثقافياً واجتماعياً عميقاً على رؤيتهم للوطن والهوية والمستقبل. بعض العائدين يعودون بحنين مشوب بخيبة، وآخرون حاملون لأفكار جديدة، إلا أنهم يصطدمون أحياناً بواقع محلي لم يتغير كما كانوا يتوقعون، مما يولد شعوراً بالغربة حتى داخل وطنهم.
وتوضح الباحثة الاجتماعية وضحة العثمان أن العائدين يواجهون "صدمة العودة" نتيجة تغير العلاقات الاجتماعية والمحيط العائلي بعد سنوات الغربة، في ظل الانقسامات والتوترات التي خلفتها الحرب والظروف الاقتصادية الصعبة، ما يولد مشاعر الحسد والقلق بين الناس ويزيد من صعوبة إعادة التكيف.
ويشير الصحفي حسن برهان، الذي أمضى سنوات في مصر قبل العودة إلى الزبداني، إلى أن المفاجأة الأكبر كانت في تغير أولويات الناس، إذ طغى التفكير المادي على الاهتمام بالتطوير الذاتي أو الشأن العام، بينما أثر القمع والخوف على الرؤية السياسية، ما زاد من الفجوة الفكرية بين الداخل والخارج وجعل عملية الاندماج أكثر تعقيداً. وتوضح العثمان أن بعض العائدين يُساء فهم تصرفاتهم أو لغتهم نتيجة اختلاف الخبرات، مؤكدة أن الحوار المباشر والمبادرات الاجتماعية يشكلان السبيل الوحيد لتقليص الفجوة بين العائدين والمقيمين.
وتضيف هناء من دمشق أن عودة السوريين من دول متعددة جعلت المجتمع أكثر تنوعاً في العادات واللهجات والآراء، ما يولد أحياناً شعوراً بالغربة حتى ضمن البيئة الأصلية، حيث يمكن تمييز العائد من تركيا عن من عاد من أوروبا أو الخليج بمجرد طريقة حديثه أو لهجته. وتشير العثمان إلى أن هذا ما يسمى بـ"الاغتراب الداخلي"، أي الشعور بالغربة داخل الوطن نفسه نتيجة اختلاف التجارب والانتماءات الجديدة.
وبين الحنين إلى الماضي وصعوبة التأقلم مع الحاضر، يعيش كثير من السوريين العائدين رحلة جديدة للبحث عن مكانهم في وطن تغيّر، ومع أن التحديات كبيرة، تبقى العودة فرصة لإعادة بناء الثقة بين أبناء الوطن الواحد وتشكيل هوية سورية أكثر تنوعاً ونضجاً، تستوعب تجارب الداخل والخارج معاً.