تحركات دبلوماسية سورية: ما وراء الزيارات المتسارعة إلى موسكو وواشنطن ولندن وبكين

2025.11.23 - 01:06
Facebook Share
طباعة

تشهد سوريا في فترة ما بعد سقوط النظام السابق حالة إعادة تشكّل واسعة في سياستها الخارجية، انعكست بوضوح في سلسلة الزيارات الدبلوماسية التي قامت بها القيادة الجديدة إلى عواصم كبرى مثل موسكو وواشنطن ولندن وبكين. وعلى الرغم من اختلاف طبيعة كل زيارة وما حققته من نتائج، فإن مجمل هذه التحركات يعكس توجهًا واضحًا من دمشق نحو صياغة موقع خارجي جديد، وتفعيل شبكة علاقات متعددة الاتجاهات ضمن سياق سياسي انتقالي معقّد.


موسكو… تثبيت الشراكة التاريخية في مرحلة جديدة
افتتحت الحكومة السورية الانتقالية تحركاتها الخارجية بزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو في 15 تشرين الأول الماضي، وهي أول زيارة رسمية له منذ تسلّمه السلطة بعد سقوط النظام.
ورغم أن العلاقة مع روسيا شهدت تحولات كبيرة خلال العقد الماضي، فإن القيادة الجديدة حرصت على إبقاء موسكو ضمن دائرة الدول ذات الأولوية، خاصة في ملفات الأمن وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.

فالزيارة — التي حملت رمزية خاصة — بدت كأنها محاولة لإعادة ضبط العلاقة على أسس جديدة تراعي طبيعة المرحلة الانتقالية. وبحسب مصادر سياسية، أكدت دمشق خلال اللقاءات أنها ملتزمة بالحفاظ على قنوات التعاون الأمني والعسكري مع روسيا، باعتبار أن دور موسكو لا يزال مؤثرًا في ملفات الجنوب السوري وفي ترتيبات ما بعد الصراع.

ورغم أن الزيارة لم تُعلن عن اتفاقات محددة، فإن توقيتها يؤكد رغبة الحكومة الانتقالية في تثبيت توازناتها القديمة قبل الشروع في بناء علاقات جديدة مع الغرب.


واشنطن… التحول الأوسع في علاقات سوريا الدولية
التحول الأكثر لفتًا للانتباه جاء في 10 تشرين الثاني الجاري، مع زيارة الشرع إلى واشنطن ولقائه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطوة تُعدّ الأولى من نوعها منذ سنوات طويلة من القطيعة.

اللقاء ركّز بشكل أساسي على مكافحة الإرهاب وترتيبات الأمن الإقليمي، وأعقبه إعلان رسمي عن انضمام سوريا — بصفتها حكومة انتقالية شرعية — إلى التحالف الدولي ضد تنظيم "الدولة الإسلامية".
واشنطن وصفت الخطوة بأنها "محورية" لإغلاق ملف المقاتلين الأجانب، بينما رأت دمشق فيها فرصة للعودة إلى المنظومة الدولية بعد حرمان طويل فرضه النظام السابق بسبب سياساته.

ويقول مراقبون إن فتح صفحة جديدة مع واشنطن لا يعني بالضرورة انتقال سوريا إلى محور سياسي جديد، بل هو محاولة للاستفادة من الانفتاح الأمريكي في ملفات الأمن والاقتصاد، مع بقاء العلاقات محكومة باعتبارات معقدة أبرزها الأمن الإقليمي والعلاقة مع إسرائيل.


لندن… عودة تدريجية إلى الحضور الدبلوماسي
بعد أيام من زيارة واشنطن، أعادت سوريا فتح سفارتها في لندن، بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى العاصمة البريطانية بدعوة رسمية.
التحرك البريطاني اللافت تمثل برفع العقوبات عن الرئيس الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب، في خطوة فسّرها محللون بأنها بداية انفتاح غربي مشروط على الحكومة السورية الجديدة.

ورغم أن لندن لم تُظهر رغبة في تطبيع كامل، فإنها بدت مستعدة لإعادة التواصل السياسي والدبلوماسي، ضمن مقاربة تعتمد "الانفتاح الحذر" وليس التحالف الكامل.


بكين… تعاون اقتصادي وأمني يواكب المرحلة
في 17 تشرين الثاني الجاري، استكملت دمشق تحركاتها بزيارة وزير الخارجية إلى بكين.
وأصدر الجانبان بيانًا مشتركًا يؤكد على تعزيز التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب إلى جانب تطوير العلاقات الاقتصادية.

وتتعامل الصين مع سوريا الجديدة من منظور مزدوج:
– شريك اقتصادي محتمل في مرحلة إعادة الإعمار،
– ودولة يجب ضمان ألا تتحول إلى ساحة لأي نشاط مرتبط بمقاتلين إيغور شارك بعضهم في مناطق الصراع سابقًا.

وبحسب خبراء، لا تطلب بكين تسليم مقاتلين، لكنها تركّز على ضمانات أمنية وتعاون طويل الأمد، بينما ترى دمشق في الصين بوابة مهمة للدعم السياسي داخل المؤسسات الدولية.


رؤية الخبراء… براغماتية لا اصطفاف
يؤكد الباحث السياسي محمد الجابي أن التحركات الحالية لا تمثل انقلابًا سياسيًا أو محاولة لاستبدال محور بمحور، بل هي — وفق تعبيره — "براغماتية بقاء" تهدف لفتح المجال أمام خيارات متعددة بعد سنوات من الحصار والتفكك الداخلي.

ويشير الجابي إلى أن الحكومة الانتقالية تسعى لإعادة بناء الدولة عبر شبكة علاقات واسعة، تساعد في ملفات إعادة الإعمار وتطوير المؤسسات الأمنية، مع الحفاظ على قدر من الحياد السياسي الذي يسميه "الحياد الذكي": انفتاح على الأطراف كلها دون انخراط في تحالفات تُكبّد البلاد أثمانًا باهظة.

ويؤكد أن روسيا تبقى لاعبًا محوريًا في الملفين الأمني والعسكري، بينما يظل التعاون مع الولايات المتحدة محكومًا باعتبارات مكافحة الإرهاب، دون التعويل على واشنطن كضامن ثابت.


وجهة نظر أخرى… ديناميكية سياسية جديدة داخل سوريا
من جهته، يرى الكاتب السياسي رائد محمود أن هذه التحركات ليست مجرد محاولات لموازنة القوى العالمية، بل هي انعكاس لـ "ديناميكية سياسية جديدة داخل سوريا نفسها"، حيث تحاول القيادة الجديدة اكتشاف هوية الدولة في مرحلة ما بعد النظام السابق، بينما تحاول العواصم العالمية فهم الشكل الجديد لسوريا.

ويعتبر محمود أن الزيارات إلى واشنطن والعواصم الغربية منحت الحكومة الجديدة قدرًا من الشرعية السياسية، لكنه يرى أن الانفتاح الغربي ما يزال هشًا ومشروطًا، خاصة مع وجود محددات قوية مرتبطة بإسرائيل ومكافحة الإرهاب.

ويرى أن الدعم العربي والتركي قد يكون عنصرًا أكثر استقرارًا من الانفتاح الغربي، فيما يبقى الدور الروسي مهمًا رغم تراجع نفوذه.


خلاصة المشهد… سياسة خارجية تتشكل بحذر
تعكس التحركات الدبلوماسية السورية الأخيرة رغبة واضحة في رسم سياسة خارجية جديدة لسوريا ما بعد النظام السابق.
ورغم أن دمشق تحاول الاستفادة من اللحظة السياسية لإعادة التموضع، فإن قدرتها على بناء توازنات ثابتة ستبقى مرهونة بمواردها المحدودة ومدى استعداد القوى الدولية لدعم المرحلة الانتقالية.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 9 + 4