سوريا والمساءلة التاريخية: طريق طويل يبدأ من الساحل

2025.11.23 - 04:54
Facebook Share
طباعة

 عقدت وزارة العدل السورية، في 18 تشرين الثاني الحالي، أول جلسة محاكمة علنية للمتهمين بارتكاب الانتهاكات والجرائم التي طالت المدنيين والعسكريين في الساحل السوري خلال آذار الماضي. هذه الخطوة أثارت استغراب الرأي العام السوري، وتساءل كثيرون عن توقيت بدء محاكمات مرتكبي الجرائم في ظل وجود آلاف الأسماء الأخرى التي ارتكبت انتهاكات في مناطق مختلفة من البلاد.

رصدت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” قائمة تضم نحو 16 ألف شخص متورط في الانتهاكات، منهم أكثر من ستة آلاف فرد من القوات الرسمية، بما فيها الجيش وأجهزة الأمن، وأكثر من تسعة آلاف من القوات الرديفة التي تشمل ميليشيات ومجموعات مساندة. وأشارت الشبكة إلى أن العدالة يجب أن تشمل مختلف المستويات، بما في ذلك ممثلين وفنانين وكتّاب وسياسيين ساهموا في تعزيز الجرائم عبر التحريض أو التواطؤ المباشر وغير المباشر.


لماذا بدأت المحاكمات من الساحل؟
يقول الحقوقي المتخصص في العدالة الانتقالية، منصور العمري، إن السبب الرئيسي يكمن في أن السلطة التي بدأت هذه المحاكمات هي نفسها السلطة الحاكمة وقت وقوع الجريمة. أما محاكمات جرائم عهد سلطة الأسد المخلوع، فستتم تحت سلطة حالية مختلفة.

وأوضح العمري أن القانون السوري الحالي لا يتضمن تعريفات واضحة لجرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، ولا يتيح تشكيل محكمة هجينة تعتمد القانونين الوطني والدولي، وبالتالي كان لا بد من الانتظار حتى إصدار قوانين محددة لتنظيم المساءلة بشكل شامل وواقعي.

وأشار العمري إلى أن العدالة الانتقالية وفق الأمم المتحدة تحدث في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء نفسها بعد تاريخ عنيف مليء بالانتهاكات، وهو ما ينطبق على الساحل والسويداء، مؤكداً أن تطبيق العدالة الانتقالية لا يشترط سقوط النظام الحاكم، بل يتطلب إرادة السلطة في تطبيقها بعد ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.


أبعاد المحاكمات السورية الحالية
يرى الباحث في مركز الحوار السوري وخبير العدالة الانتقالية نورس العبد الله أن محاسبة مرتكبي الانتهاكات في الساحل السوري تشكل خطوة أساسية لترسيخ سيادة القانون وإنهاء الإفلات من العقاب.

ويضيف أن هناك بعدين أساسيين وراء بدء المحاكمات:

البعد العملي والإجرائي: مرتبط بإمكانية تطبيق المحاكمات على أرض الواقع، بسبب محدودية عدد المرتكبين وعدم الحاجة لتشريعات جديدة، حيث تخضع هذه المحاكمات للقضاء العادي، على عكس المسار الكامل للعدالة الانتقالية الذي يحتاج لتشريعات تحدد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

البعد السياسي: متصل بالضغط الدولي والمتابعة الدولية الدقيقة للحكومة الانتقالية، وضرورة معالجة الوضع السياسي والاجتماعي لضبط الأمن والنظام العام بعد سقوط النظام، بما يشمل خطوات عملية مثل لجنة تقصي الحقائق ثم إطلاق المحاكمات لضمان شعور السوريين بوجود قواعد قانونية تطبق على الجميع.


تجنب “جرح إضافي” للضحايا
يشدد العبد الله على أن المحاكمات يجب أن تُدار بحذر حتى لا تتحول إلى مصدر ألم إضافي لضحايا النظام السابق وضحايا الثورة السورية، ويقترح العمل الجماعي بين السلطة العامة، الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، الهيئة الوطنية للمفقودين، وزارة العدل ووزارة الداخلية لتنسيق الجهود وشرح مسار العدالة للجمهور.

كما يمكن تقديم رسائل رمزية تؤكد التحضير الجدي للمساءلة، وحل الإشكاليات العملية عبر مسارات غير قضائية، مثل تسريع جبر الضرر ورد الممتلكات للضحايا، والتعامل مع الملفات العاجلة للموظفين المفصولين.

ويؤكد الدكتور أحمد قربي، في القانون العام، أن طمأنة ذوي الضحايا تتم من خلال ثلاث خطوات:

نشر مسودة قانون العدالة الانتقالية للرأي العام لإظهار خطوات عملية لإنصاف الضحايا.

اتخاذ إجراءات احترازية، مثل إصدار مذكرات توقيف وحجز أموال المتورطين.

تغطية إعلامية لشرح تطورات مسار العدالة الانتقالية.


هل تأخرت العدالة الانتقالية؟
يقول العمري إن محاكمات جرائم عهد النظام السابق تتطلب إطاراً قانونياً متكاملاً، وإنه يجري التحضير لهذه المحاكمات على قدم وساق. وقد أصدر الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، المرسوم رقم 149 لعام 2025 لتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، المسؤولة عن كشف الحقيقة، مساءلة المسؤولين، جبر الضرر، وتحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ مبادئ عدم التكرار.

وأكد عضو الهيئة أحمد حزرومة أن الهيئة وضعت ستة مسارات أساسية للعمل عليها: كشف الحقيقة، العدالة والمساءلة، جبر الضرر، ضمان عدم التكرار، تخليد الذكرى، وأمل السوريين في بناء سوريا الجديدة من خلال السلم الأهلي.

ويرى العمري أن العدالة الانتقالية في سوريا بدأت قبل تشكيل الهيئة، عبر خطوات مثل حل الأجهزة الأمنية السابقة، إصلاح الجهاز القضائي، إلغاء إجراءات منع السفر، وتجميد المرسوم 66، وكلها إجراءات أساسية لبناء العدالة الانتقالية منذ الأشهر الأولى بعد سقوط النظام السابق.

وأشار حزرومة إلى أن الهيئة تقوم حالياً بوضع خطة استراتيجية مبنية على استماع مباشر للضحايا والسكان في مختلف المحافظات، لتحديد الاحتياجات الحقيقية لكل منطقة، وضمان أن برامج العدالة الانتقالية تلبي تطلعات المجتمع.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 9