تتزايد في الآونة الأخيرة المؤشرات التي تتحدث عن نية روسيا إعادة ترتيب وجودها العسكري في سوريا، بل وتعزيز حضورها بصورة تشبه المرحلة التي سبقت التغيير السياسي في دمشق. من بين تلك المؤشرات ما يتداول حول تحرك روسي لإنشاء مواقع عسكرية جديدة في محافظة القنيطرة جنوبي البلاد، وهي منطقة على تماس مباشر مع الحدود الإسرائيلية، ما يضفي على التحركات أبعادًا حساسة إقليميًا.
هذا التوجه يعكس استمرار موسكو في اعتماد سياسة “إدارة الأزمة” بدل الإسهام في حلّها، ويعيد إحياء المخاوف من أن يؤدي تعزيز الوجود الروسي إلى عرقلة مسارات الانفتاح السياسي ومحاولات التعافي الاقتصادي في سوريا، ووضع البلاد مجددًا في قلب الصراع الجيوسياسي وتوازنات القوى الدولية.
أبعاد التحرك الروسي في الجنوب
يقدّم محللون رؤية تفيد بأن الخطوة الروسية في الجنوب لا تتعلق فقط بالاعتبارات العسكرية، بل تأتي في سياق رغبة أوسع في تثبيت النفوذ داخل سوريا بعد التغيرات السياسية وإعادة تشكل التحالفات الإقليمية. فموسكو تسعى إلى الحفاظ على مواقعها الاستراتيجية في البلاد، وتحديدًا قواعدها البحرية في طرطوس والجوية في حميميم، بما يضمن بقاءها لاعبًا مؤثرًا في البحر المتوسط وفي اتجاه إفريقيا.
وتشير المعلومات المتداولة حول الزيارة الروسية الأخيرة للجنوب السوري إلى أن الوفد الذي تولّى متابعة موضوع إعادة الانتشار لم يضم أي تمثيل تركي، رغم ما تردد عن احتمال وجود تنسيق ثلاثي. هذا الغياب يؤشر إلى رغبة روسية في الإمساك بملف الجنوب حصريًا بالتنسيق مع دمشق، وتجنب إشراك أنقرة في هذا الجزء الحساس من الخريطة السورية.
وفي الوقت ذاته، يسمح الوجود قرب نقاط التماس مع إسرائيل لروسيا بإضافة ورقة ضغط مهمة في علاقتها مع تل أبيب، ويعزز قدرتها على التفاوض في أي ترتيبات تخص أمن المنطقة.
كما تُقرأ هذه العودة ضمن استراتيجية منع حدوث فراغ قد تستفيد منه أطراف محلية أو إقليمية أخرى، في مرحلة يعاد فيها تشكيل التوازنات داخل سوريا. ويعكس ذلك النظرة الروسية التي تتعامل مع البلاد كساحة لتنافس القوى الكبرى أكثر مما تتعامل معها كدولة يفترض أن تستعيد سيادتها.
الآثار المحتملة للعودة الروسية
أي توسع جديد للوجود الروسي داخل سوريا يحمل مخاطر كبيرة، ذلك أن سنوات الوجود العسكري الروسي السابقة لم تُسهم في وقف الدمار أو حماية المدنيين، بل ترافقت مع تدهور الأوضاع الإنسانية وتهجير واسع للسكان، إضافة إلى السيطرة على مواقع اقتصادية واستراتيجية، خاصة في الساحل.
وفي حال رغبت الحكومة الانتقالية في دمشق في إعادة إعمار البلاد وإحياء اقتصادها المنهار تقريبًا، فإن الابتعاد عن الشراكة العسكرية مع موسكو يمثل خيارًا ضروريًا. فالاستمرار في التحالف مع روسيا، واستمرار وجودها العسكري النشط في شرق المتوسط، سيضع دمشق في مواجهة محتملة مع الغرب ويهدد بعودة العقوبات الدولية، ما قد يُثقل كاهل السلطة الانتقالية ويحد من قدرتها على الانفتاح الخارجي.
كما أن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ما زالت تنظر إلى عودة التنسيق بين دمشق وموسكو بقدر كبير من الشك، خصوصًا أن موسكو تعتمد على تحالفاتها كأداة لتعظيم نفوذها وليس كمسار لبناء شراكات متوازنة. وقد راكمت على مدى عقد كامل مصالح عسكرية واقتصادية تجعل من صعوبة فكّ الارتباط معها تحديًا حقيقيًا.
وجود روسيا في الجنوب أو في الساحل أو في أي منطقة أخرى يعني استمرار البيئة الأمنية الهشة، ويغلق الباب أمام أي مسار جدي لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. كما أن التحالف مع موسكو، التي تعاني عزلة دولية نتيجة حربها في أوكرانيا، يضع سوريا في مسار تصادمي مع الغرب، وقد يؤدي إلى فقدان فرص التعافي الممنوحة حاليًا.
الأخطر من ذلك أن الوجود الروسي يخلق حالة من عدم الاستقرار المستدام، إذ يخضع المشهد الأمني حينها للمقايضات والمفاوضات المتغيرة، ولا يوفر بيئة آمنة للسكان، بل يزيد احتمالات التصعيد الإقليمي والدولي فوق الأراضي السورية.
الحاجة إلى قطيعة سياسية مع موسكو
من المهم أن تتذكر الحكومة الانتقالية أن روسيا كانت طرفًا رئيسيًا في إطالة أمد الصراع داخل سوريا منذ تدخلها العسكري عام 2015. ولذلك فإن إعادة منحها موطئ قدم جديد في البلاد يعني تكريس نفوذها السياسي والعسكري دون محاسبة، ويمنحها شرعية مجانية على حساب معاناة السوريين.
التوجه السوري نحو إرساء علاقات دولية جديدة ينبغي أن يقوم على الشراكة مع الأطراف القادرة على دعم الاستقرار، وليس مع دولة أسهمت في تدمير البنية التحتية، وأوقعت خسائر كبيرة بين المدنيين طوال سنوات الحرب.
وبحسب المعلومات المتداولة، من المتوقع أن تبدأ روسيا خطوات عملية لإعادة انتشارها في الجنوب خلال الفترة القادمة، عبر إعادة فتح بعض مواقعها العسكرية قبل نهاية العام. ويُقرأ هذا التحرك على أنه استمرار لرفض موسكو الانخراط في حل سياسي شامل، وإصرارها على اتباع نمط “الوصاية العسكرية” التي تخدم مصالحها الإستراتيجية.
ومع استمرار النفوذ الروسي، يبقى المجتمع السوري مهددًا بمزيد من الانقسام والاحتقان، ويصعب عليه تجاوز سنوات الحرب الطويلة وبناء دولة حديثة ذات سيادة مستقلة. فالوجود الروسي، سواء جنوبًا أو على الساحل أو في أي نقطة أخرى، سيظل عاملًا يقف بوجه أي مشروع للتعافي والاستقرار ما لم تتخذ دمشق قرارًا واضحًا بفك الارتباط نهائيًا مع موسكو.