تمر محافظة إدلب، وخصوصًا الريف الجنوبي، بعد أكثر من عام على استقرار إدارة العمليات العسكرية والدولة الجديدة، بفترة تُصنف على أنها حرجة من حيث الخدمات العامة والبنية التحتية. فمع غياب شبه كامل لأي حضور فعلي للدولة، يواجه الأهالي قسماً من الإهمال الذي قد يبدو منظّمًا، إذ لا تُسجّل مشاريع إعمار أو برامج خدمية واضحة، ولا توجد آليات متابعة واضحة للمبادرات الحكومية.
المشهد الميداني يعكس حالتين متوازيتين: من جهة، انتقال أعداد كبيرة من سكان المناطق المدمّرة إلى محافظات أخرى، حيث يساهم بعضهم في مؤسسات الدولة الجديدة، فيما تبقى عائلاتهم الأصلية خارج مناطقهم، مما يثير تساؤلات حول وجود “استنزاف بشري ممنهج” قد يكون مترافقًا مع إعادة توزيع القوى العاملة ضمن الإدارة الجديدة.
إهمال أم سياسة مقصودة؟
مصادر محلية وأهالي المنطقة يشيرون إلى أن ما يحدث ليس مجرد تقصير إداري مؤقت، بل يبدو أقرب إلى خيار سياسي-إداري محسوب. ترك المناطق بلا خدمات أساسية يُجبر الشباب على البحث عن فرص وظيفية خارجها، في حين تُترك البنية التحتية والمرافق الحيوية للتقادم. في المقابل، تشير بعض الجهات الحكومية إلى محدودية الموارد والإمكانات، وأن إعادة إعمار جميع المناطق المدمرة في وقت واحد أمر صعب يتطلب تخطيطًا طويل المدى، وهو ما يمثل تفسيرًا منطقيًا جزئيًا لتأخر المشاريع.
بعض المسؤولين في الإدارة الجديدة يشيرون إلى أن التحديات تشمل نقص الكوادر المتخصصة، وصعوبة الوصول إلى مناطق متفرقة نتيجة تداعيات النزاع، مع ضرورة التعاون مع المنظمات الإنسانية المحلية والدولية لتغطية الفجوات. وفق هذه الرؤية، يُنظر إلى المبادرات المحلية والجهود التطوعية كركيزة مؤقتة للحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات حتى تتمكن الدولة من التدخل الفعلي.
العام الضائع
على الأرض، لم يُسجَّل خلال العام الماضي أي مشروع بنيوي ملموس: لا بنى تحتية، ولا شبكة طرق جديدة، ولا تحسين لخدمات المياه والكهرباء والصحة. الجهات الرسمية اكتفت بالإعلان عن خطط مستقبلية، غالبًا بلا جداول زمنية محددة، أو ميزانيات واضحة، أو مؤشرات أداء قابلة للمساءلة، مما ألقى العبء الأكبر على السكان أنفسهم والمنظمات الإنسانية، الذين حاولوا تأمين احتياجات المجتمع الأساسية عبر مبادرات محلية.
إيجابيات ملموسة
رغم كل الانتقادات، هناك إشارات إيجابية في بعض المناطق التي تمكنت فيها منظمات مدنية ودولية من تأمين خدمات جزئية، كتحسين شبكات المياه وتوفير بعض الدعم التعليمي والصحي. كما نجح بعض الأهالي في تنظيم تعاونيات لإعادة الحياة الاقتصادية إلى القرى، وهو ما يظهر قدرة المجتمع المحلي على التكيف والمبادرة رغم غياب الدولة الفعلي.
سلبيات وتأثير الإقصاء
السلبيات واضحة، إذ يهدد استمرار هذا الوضع بزيادة فجوة الثقة بين الدولة والمجتمعات المحلية. غياب المرافق الأساسية والخدمات يؤدي إلى تراجع الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويعطي انطباعًا بأن مناطق كاملة تُستبعد من أي خطة تنمية أو إعمار، مما يعكس ما يمكن اعتباره إدارة للأزمة عبر الخطاب بدلاً من العمل على الأرض.
آراء متباينة
خبراء محليون يشيرون إلى أن بعض الخيارات قد تكون مرتبطة بالتركيز على مناطق أخرى ذات أولوية استراتيجية، وهو ما يخلق تناقضًا بين التغطية الإعلامية والواقع الميداني. من جانب آخر، يرى ناشطون أن استمرار الوضع الحالي دون تدخل حقيقي يشكل مخاطرة بتزايد النزوح الداخلي، ويقلل من قدرة الدولة على استعادة الثقة بين السكان.
خلاصة
يبقى سؤال العدالة التنموية قائمًا: هل تُبنى الدولة الجديدة على أساس الإنصاف وتوزيع الموارد بشكل متوازن، أم أن هناك سياسة غير معلنة للإهمال والإقصاء تحت ستار إدارة الأزمة؟ بينما تحاول الدولة والمجتمع المدني إيجاد حلول مؤقتة، تبقى مناطق إدلب الجنوبية والشرقية نموذجًا لتحديات إعادة البناء بعد سنوات الصراع، حيث يلتقي الواقع الاجتماعي بالسياسات العامة بطريقة تكشف عن فجوة كبيرة بين ما يُقال وما يُنفذ.